فصل: ذكر البجة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **


 ذكر البجة

ويقال إنهم من البربر اعلم أنّ أول بلد البجة من قرية تعرف بالحزبة معدن الزمرّذ في صحراء قوص وبين هذا الموضع وبين قوص نحو من ثلاث مراحل وذكر الجاحظ أنه ليس في الدنيا معدن للزمرّذ غير هذا الموضع وهو يوجد في مغاير بعيدة مظلمة يدخل إليها بالمصابيح وبحبال يُستدل بها على الرجوع خوف الضلال ويحفر عليه بالمعاول فيوجد في وسط الحجارة وحوله غشيم دونه في الصبغ والجوهر وآخر بلاد البجة أوّل بلاد الحبشة وهم في بطن هذه الجزيرة أعني جزيرة مصر إلى سيف البحر الملح مما يلي جزائر سواكن وباضع ودهلك وهم بادية يتبعون الكلأ حيثما كان الرعي بأخبية من جلود‏.‏

وأنسابهم من جهة النساء ولكل بطن منهم رئيس وليس عليهم متملك ولا لهم دين وهم يورثون ابن البنت وابن الأخت دون ولد الصلب ويقولون‏:‏ إنّ ولادة ابن الأخت وابن البنت أصح فإنه إن كان من زوجها أو من غيره فهو ولدها على كل حال وكان لهم قديمًا رئيس يرجع جميع رؤسائهم إلى حكمه يسكن قرية تعرف‏:‏ بهجر هي أقصى جزيرة البجة ويركبون النجب الصهب وتنتج عندهم وكذلك الجمال العراب كثيرة عندهم أيضًا والمواشي من البقر والغنم والضأن غاية في الكثرة عندهم وبقرهم وحسان ملعمة بقرون عظام ومنها جُم وكباشهم كذلك منمرة ولها ألبان وغذاؤهم اللحم وشرب اللبن وأكلهم للجبن قليل وفيهم من يأكله وأبدانهم صحاح وبطونهم خماص وألوانهم مشرقة الصفرة ولهم سرعة في الجري يباينون بها الناس وكذلك جِمالهم شديدة العدو صبورة عليه وعلى العطش يسابقون عليها الخيل ويقاتلون عليها وتدور بهم كما يشتهون ويقطعون عليها من البلاد ما يتفاوت ذكره ويتطاردون عليها في الحرب فيرمي الواحد منهم الحربة فإن وقعت في الرمية طار إليها الجمل فأخذها صاحبها وإن وقعت في الأرض ضرب الجمل بجرانه الأرض فأخذها صاحبها‏.‏

ونبغ منهم في بعض الأوقات رجل يعرف بكلاز شديد مقدام وله جمل ما سمع بمثله في السرعة وكان أعور وصاحبه كذلك التزم لقومه أنه يشرف على مصلى مصر يوم العيد وقد قرب العيد قربًا لا يكون للبلوغ إليها في مثله حقيقة فوفى بذلك وأشرف على المقطم وضربت الخيل خلفه فلم يلحق وهذا هو الذي أوجب أن يكون في السفح طليعة يوم العيد وكان الطولونية وغيرهم‏:‏ من أمراء مصر يوقفون في سفح الجبل المقطم مما يلي الموضع المعروف‏:‏ بالحبش جيشًا كثيفًا مراعيًا للناس حتى ينصرفوا من عيدهم في كل عيد وهم أصحاب ذمّة فإذا غدر أحدهم رفع المغدور به ثوبًا على حربة وقال‏:‏ هذا عرش فلان يعني أبا الغادر فتصير سيئة عليه إلى أن يترضاه وهم يبالغون في الضيافة فإذا طرق أحدهما الضيف ذبح له فإذا تجاوز ثلاثة نفر نحر لهم من أقرب الأنعام إليه سواء كانت له أو لغيره وإن لم يكن شيء نحر راحلة الضيف وعوّضه ما هو خير منها وسلاحهم الحراب السباعية مقدار طول الحديدة ثلاثة أذرع والعود أربعة أذرع وبذلك سميت سباعية والحديدة في عرض السيف لا يخرجونها من أيديهم إلا في بعض الأوقات لأنّ في آخر العود شيئًا شبيهًا بالفلكة يمنع خروجها عن أيديهم وصناع هذه الحراب نساء في موضع لا يختلط بهنّ رجل إلا المشتري منهنّ‏.‏

فإذا ولدت إحداهنّ من الطارقين لهنّ جارية استحيتها وإن ولدت غلامًا قتلته ويقلن‏:‏ إنّ الرجال بلاء وحرب ودرقهم من جلود البقر مشعرة ودرق مقلوبة تعرف باكسومة من جلود الجواميس وكذلك الدهلكية ومن دابة في البحر وقِسيهم عربية كبار غلاظ من السحر والشوحط يرمون عليها بنبل مسموم وهذا السم يعمل من عروق شجر الغلف يطبخ على النار حتى يصير مثل الغرا فإذا أرادوا تجربته شرط أحدهم جسده وسيل الدم ثم شممه هذا السم فإذا تراجع الدم علم أنه جيد ومسح الدم لئلا يرجع إلى جسمه فيقتله فإذا أصاب الإنسان قتل لوقته ولو مثل شرطة الحجام وليس له عمل في غير الجرح والدم وإن شرب منه لم يضرّ وبلدانهم كلها معادن وكلما تصاعدت كانت أجود ذهبًا وأكثر وفيها معادن الفضة والنحاس والحديد والرصاص وحجر المغناطيس والمرقشيتا والحمست والزمرّذ وحجارة شطبا فإذا بُلَّتْ الشطبة منها بزيت وَقَدَت مثل الفتيلة وغير ذلك مما شغلهم طلب معادن الذهب عما سواه‏.‏

والبجة لا تتعرّض لعمل شيء من هذه المعادن وفي أوديتهم شجر المقل والإهليلج والإذخر والشيح والسنا والحنظل وشجر البان وغير ذلك وبأقصى بلدهم‏:‏ النخل وشجر الكرم والرياحين وغير ذلك مما لم يزرعه أحد وبها سائر الوحش من السباع والفيلة والنمور والفهود والقردة وعناق الأرض والزباد ودابة تشبه الغزال حسنة المنظر لها قرنان على لون الذهب قليلة البقاء إذا صيدت ومن الطيور‏:‏ الببغاء والنقيط والنوبيّ والقماريّ ودجاج الحبش وحمام بازين وغير ذلك‏.‏

وليس منهم رجل إلا منزوع البيضة اليمنى وأما النساء فمقطوع أشفار فروجهنّ وإنه يلتحم حتى يشق عنه للمتزوّج بمقدار ذكر الرجل ثم قلّ هذا الفعل عندهم وقيل‏:‏ إنّ السبب في ذلك أنّ ملكًا من الملوك حاربهم قديمًا ثم صالحهم وشرط عليهم قطع ثديّ من يولد لهم من النساء وقطع ذكور من يولد من الرجال أراد بذلك قطع النسل منهم فوفوا بالشرط وقلبوا المعنى في أن جعلوا قطع الثديّ للرجال والفروج للنساء وفيهم جنس يقلعون ثناياهم ويقولون‏:‏ لا نتشبه بالحمير وفيهم جنس آخر في آخر بلاد البجة يقال لهم‏:‏ البازة نساء جميعهم يتسمون باسم واحد وكذلك الرجال فطرقهم في وقت رجل مسلم له جمال فدعا بعضهم بعضًا وقالوا‏:‏ هذا الله قد نزل من السماء وهو جالس تحت الشجرة فجعلوا ينظرون إليه من بعد‏.‏

وتعظم الحيات ببلدهم وتكثر أصنافها ورُئِيَتْ حية في غدير ماء قد أخرجت ذنبها والتفت على امرأة وردت فقتلتها فرؤي شحمها قد خرج من دبرها من شدّة الضغطة وبها حية ليس لها رأس وطرفاها سواء منقشة ليست بالكبيرة إذا مشى الإنسان على أثرها مات وإذا قُتِلت وأَمسك القاتل ما قتلها به من عود أو حربة في يده ولم يلقه من ساعته مات وقتلت حية منها بخشبة فانشقت الخشبة وإذا تأمّل هذه الحية أحد وهي ميتة أو حية أصابه ضررها وفي البجة شر وتسرع إليه ولهم في الإسلام وقبله أذية على شرق صعيد مصر خرّبوا هناك قرى عديدة وكانت فراعنة مصر تغزوهم وتوادعهم أحيانًا لحاجتهم إلى المعادن وكذلك الروم لما أن ملكوا مصر ولهم في المعادن آثار مشهورة وكان أصحابهم بها وقد فتحت مصر‏.‏

قال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم‏:‏ وتجمع لعبد الله بن سعد بن أبي سرح في انصرافه من النوبة على شاطئ النيل البجة فسأل عن شأنهم فأخبر‏:‏ أن ليس لهم ملك يرجعون إليه فهان عليه أمرهم وتركهم فلم يكن لهم عقد ولا صلح وكان أول من هادنهم عبيد الله بن الحبحاب السلوليّ ويذكر أنه وجد في كتاب ابن الحبحاب لهم ثلثمائة بكر في كل عام حين ينزلون الريف مجتازين تجارًا غير مقيمين على أن لا يقتلوا مسلمًا ولا ذميّاَ فإن قتلاه فلا عهد لهم ولا يؤوا عبيد المسلمين وأن يردوا آبقيهم إذا وقعوا إليهم‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم كانوا يؤاخذون بهذا وبكل شاة أخذها البجاوي فعليه أربعة دنانير وللبقرة عشرة وكان وكيلهم مقيمًا بالريف رهينة بيد المسلمين ثم كثر المسلمون في المعدن فخالطوهم وتزوّجوا فيهم وأسلم كثير من الجنس المعروف بالحدارب إسلامًا ضعيفًا وهم شوكة القوم ووجوههم وهم مما يلي مصر من أوّل حدهم إلى العلاقي وعيذاب المعبر منه إلى جدّة وما وراء ذلك ومنهم جنس آخر يعرفون بالرنافج هم أكثر عددًا من الحدارب غير أنهم تبع لهم وخفراؤهم يحمونهم ويحبونهم المواشي ولكل رئيس من الحدارب قوم من الرنافج في حملته فهم كالعبيد يتوارثونهم بعد أن كانت الرنافج قديمًا أظهر عليهم ثم كثرت أذيتهم على المسلمين وكان ولاة أسوان من العراق فرفع إلى أمير المؤمنين المأمون خبرهم فأخرج إليهم عبد الله بن الجهم فكانت له معهم وقائع ثم وادعهم وكتب بينه وبين ركنون رئيسهم الكبير الذي يكون بقريتهم هجر المقدم ذكرها كتابًا نسخته‏:‏ هذا كتاب كتبه عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أبقاه الله في شهر ربيع الأوّل سنة ست عشرة ومائتين لكنون بن عبد العزيز عظيم البجة بأسوان إنك سألتني وطلبت إلي أن أؤمنك وأهل بلدك من البجة وأعقد لك ولهم أمانًا عليّ وعلى جميع المسلمين فأجبتك إلى أن عقدت لك وعلى جميع المسلمين أمانًا ما استقمت واستقاموا على ما أعطيتني وشرطت لي في كتابي هذا وذلك أن يكون سهل بلدك وجبلها من منتهى حدّ أسوان من أرض مصر إلى حدّ ما بين دهلك وباضع ملكًا للمأمون عبد الله بن هارون أمير المؤمنين عزه الله تعالى وأنت وجميع أهل بلدك عبيد لأمير المؤمنين إلا أنك تكون في بلدك ملكًا على ما أنت عليه في البجة وعلى أن تؤدّي إليه الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة وذلك مائة من الإبل أو ثلثمائة دينار وازنة داخلة في بيت المال والخيار في ذلك لأمير المؤمنين ولولاته وليس لك أن تخرم شيئًا عليك من الخراج وعلى أنّ كل أحد منكم إن ذكر محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب الله أو دينه بما لا ينبغي أن يذكره به أو قتل أحدًا من المسلمين حرًّا أو عبدًا فقد برئت منه الذمّة ذمّة الله وذمّة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمّة أمير المؤمنين أعزه الله وذمة جماعة المسلمين وحل دمه كما يحلّ دم أهل الحرب وذراريهم وعلى أنّ أحدًا منكم إن أعان المحاربين على أهل الإسلام بمال أو دله على عورة من عورات المسلمين أو أثر لعزتهم فقد نقض ذمّة عهده وحلّ دمه وعلى أنّ أحدًا منكم إن قتل أحدًا من المسلمين عمدًا أو سهوًا أو خطأ حرًّا أو عبدًا أو أحدًا من أهل ذمة المسلمين أو أصاب لأحد من المسلمين أو أهل ذمّتهم ما لا ببلد البجة أو ببلاد الإسلام أو ببلاد النوبة أو في شيء من البلدان برًّا أو بحرًا فعليه في فتل المسلم عشر ديات وفي قتل العبد المسلم عشر قيم وفي قتل الذميّ عشر ديات من دياتهم وفي كل مال أصبتموه للمسلمين وأهل الذمّة عشرة أضعافه وإن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرًا أو مقيمًا أو مجتازًا أو حاجًا فهو آمن فيكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم ولا تؤوا أحدًا من آبقي المسلمين فإن أتاكم آتٍ فعليكم أن تردوه إلى المسلمين وعلى أن تردوا أموال المسلمين إذا صارت في بلادكم بلا مؤنة تلزمهم في ذلك وعلى أنكم إن نزلتم ريف صعيد مصر لتجارة أو مجتازين لا تظهرون سلاحًا ولا تدخلون المدائن والقرى بحال ولا تمنعوا أحدًا من المسلمين الدخول في بلادكم والتجارة فيها برًّا ولا بحرًا ولا تخيفوا السبيل ولا تقطعوا الطريق على أحد من المسلمين ولا أهل الذمّة ولا تسرقوا لمسلم ولا ذميّ مالًا وعلى أن لا تهدموا شيئًا من المساجد التي ابتناها المسلمون بصيحة وهجر وسائر بلادكم طولًا وعرضًا فإن فعلتم ذلك فلا عهد لكم ولا ذمّة‏.‏

وعلى أن كنون بن عبد العزيز يقيم بريف صعيد مصر وكيلًا يفي للمسلمين بما شرط لهم من دفع الخراج وردّ ما أصابه البجة للمسلمين من دم ومال وعلى أن أحدًا من البجة لا يعترض حدّ القصر إلى قرية يقال لها قبان من بلد النوبة حدًّا لا عمدة عقد عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين لكنون بن عبد العزيز كبير البجة الأمان على ما سمينا وشرطنا في كتابنا هذا وعلى أن يُوافي به أمير المؤمنين فإن زاغ كنون أو عاث فلا عهد له ولا ذمّة وعلى كنون أن يدخل عمال أمير المؤمنين بلاد البجة لقبض صدقات من أسلم من البجة وعلى كنون الوفاء بما شرط لعبد الله بن الجهم وأخذ بذلك عهد الله عليه بأعظم ما أخذ على خلقه من الوفاء والميثاق‏.‏

ولكنون بن عبد العزيز ولجميع البجة‏:‏ عهد الله وميثاقه وذمّة أمير المؤمنين وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد وذمّة عبد الله بن الجهم وذمّة المسلمين بالوفاء بما أعطاه عبد الله بن الجهم ما وفى كنون بن عبد العزيز بجميع ما شرط عليه فإن غيّر كنون أو بدّل أحد من البجة فذمّة الله جل اسمه وذمّة أمير المؤمنين وذمّة الأمير أبي إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد وذمّة عبد الله بن الجهم وذمّة المسلمين بريئة منهم وترجم جميع ما في هذا الكتاب حرفًا حرفًا زكريا بن صالح المخزوميّ من سكان جدة وعبد الله بن إسماعيل القرشيّ ثم نسق جماعة من شهود أسوان فأقام البجة على ذلك برهة ثم عادوا إلى غزو الريف من صعيد مصر وكثر الضجيج منهم إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله فندب لحربهم محمد بن عبد الله القميّ فسأل أن يختار من الرجال من أحبّ ولم يرغب إلى الكثرة لصعوبة المسالك‏.‏

فخرج إليهم من مصر في عدّة فليلة ورجال منتخبة وسارت المراكب في البحر فاجتمع البجة لهم في عدد كثير عظيم فد ركبوا الإبل فهاب المسلمون ذلك فشغلهم بكتاب طويل كتبه في طومار ولفه بثوب فاجتمعوا لقراءته فحمل عليهم وفي أعناق الخيل الأجراس فنفرت الجمال بالبجة ولم تثبت لصلصلة الأجراس فركب المسلمون أقفيتهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وقتل كبيرهم فقام من بعده ابن أخيه وبعث يطلب الهدنة فصالحهم على أن يطأ بساط أمير المؤمنين فسار إلى بغداد وقدم على المتوكل بسرّ من رأى في سنة إحدى وأربعين ومائتين فصولح على أداء الإداوة والبقط واشترط عليهم أن لا يمنعوا المسلمين من العمل في المعدن‏.‏

وأقام القميّ بأسوان مدّة وترك في خزائنها ما كان معه من السلاح وآلة الغزو فلم تزل الولاة تأخذ منه حتى لم يبقوا منه شيئًا فلما كثر المسلمون في المعادن واختلطوا بالبجة قلّ شرهم وظهر التبر لكثرة طلابه وتسامع الناس به فوفدوا من البلدان وقدم عليهم أبو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحميد العمريّ بعد محاربته النوبة في سنة خمس وخمسين ومائتين ومعه ربيعة وجهينة وغيرهم من العرب فكثرت بهم العمارة في البجة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان ستين ألف راحلة غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب ومالت البجة إلى ربيعة وتروّحوا إليهم‏.‏

وقيل‏:‏ إنّ كهان البجة قبل إسلام من أسلم منهم ذكرت عن معبودهم الطاعة ربيعة ولكنون معًا فهم على ذلك فلما قتل العمريّ واستولت ربيعة على الجزائر والاهم على ذلك البجة فأخرجت من خالفها من العرب وتصاهروا إلى رؤساء البجة وبذلك كف ضررهم عن المسلمين‏.‏

والبجة الداخلة في صحراء بلد علوة مما يلي البحر الملح إلى أوّل الحبشة ورجالهم في الظعن والمواشي واتباع الرعي والمعيشة والمراكب والسلاح كحال الحدارب إلا أن الحدارب أشجع وأهدى من الداخلة على كفرهم من عبادة الشيطان والاقتداء بكهانهم ولكل بطن كاهن يضرب له قبة من أدم معبدهم فيها فإذا رأوا استخباره عما يحتاجون إليه تعرى ودخل إلى القبة مستدبرًا ويخرج إليهم وبه أثر جنون وصرع يقول‏:‏ الشيطان يقرئكم السلام ويقول لكم‏:‏ ارحلوا عن هذه الحلة فإن الرهط الفلانيّ يقع بكم وسألتم عن الغزو إلى بلد كذا فسيروا فإنكم تظفرون وتغنمون كذا وكذا والجمال التي تأخذونها من موضع كذا هي لي والجارية الفلانية التي تجدونها في الخباء الفلانيّ والغنم التي من صفتها كذا ونحو هذا القول فيزعمون أنه يصدقهم في أكثر من ذلك فإذا غنموا أخرجوا من الغنيمة ما ذكر ودفعوه إلى الكاهن يتموّله ويحرّمون ألبان نوقها على من لم يقبل فإذا أرادوا الرحيل حمل الكاهن هذه القبة على جمل مفرد فيزعمون أن ذلك الجمل لا يثور إلا بجهد وكذلك سيره ويتصبب عرقًا والخيمة فارغة لا شيء فيها وقد بقي في الحدارب جماعة على هذا المذهب ومنهم من يتمسك بذلك مع إسلامه‏.‏

قال مؤرخ النوبة‏:‏ ومنه لخصت ما تقدّم ذكره وقد قرأت في خطبة الأجناس لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ ذكر البجة والكجة ويقول عنهم‏:‏ شديد كلبهم قليل سلبهم فالبجة كذلك وأما الكجة فلا أعرفهم انتهى ما ذكره عبد الله بن أحمد مؤرخ النوبة‏.‏

وقال أبو الحسن المسعودي‏:‏ فأما البجة فإنها نزلت بين بحر القلزم ونيل مصر وتشعبوا فرقًا وملَّكوا عليهم ملكًا وفي أرضهم معادن الذهب وهو التبر ومعادن الزمرّذ وتتصل سراياهم ومناسرهم على النجب إلى بلاد النوبة فيغزون ويسبون وقد كانت النوبة قبل ذلك أشد من البجة إلى أن قوي الإسلام وظهر وسكن جماعة من المسلقين معدن الذهب وبلاد العلاقي وعيذاب وسكن في تلك الديار خلق من من العرب من ربيعة بن نزار بن معدّ بن عدنان فاشتدّت شوكتهم وتزوّجوا من البجة فقويت البجة ثم صاهرها قوم من ربيعة فقويت ربيعة بالبجة على من ناواها وجاورها من قحطان وغيرهم ممن سكن تلك الديار‏.‏

وصاحب المعدن في وقتنا هذا وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلثمائة بشر بن مروان بن إسحاق بن ربيعة يركب في ثلاثة آلاف ألف من ربيعة وأحلافها من مصر واليمن وثلاثين ألف حراب على النجب من البجة في الجحف التحاوية وهم الحدارب وهم مسلمون ممن بين سائر البجة والداخلة من البجة كفار يعبدون صنمًا لهم والبجة المالكة لمعدن الزمرذ يتصل ديارها بالعلاقي وهو معدن الذهب وبين العلاقي والنيل خمس عشرة مرحلة وأقرب العمارة إليه مدينة أسوان وجزيرة سواكن أقل من ميل في ميل وبينها وبين البحر الحبشي بحر قصير يخاض وأهلها طائفة من البجة تسمى‏:‏ الخاسة وهم مسلمون ولهم بها ملك‏.‏

وقال الهمدانيّ‏:‏ نكح كنعان بن حام أرتيب بنت شاويل بن ترس بن يافث فولدت له حقا والأساود ونوبة وقران والزنج والزغاوة وأجناس السودان وقيل‏:‏ البجة من ولد حام بن نوح وقيل‏:‏ من ولد كوش بن كنعان بن حام وقيل‏:‏ البجة قبيلة من الحبش أصحاب أخبية من شعر وألوانهم أشدّ سوادًا من الحبشة يتزيون بزيّ العرب وليس لهم مدن ولا قرى ولا مزارع ومعيشتهم مما ينقل إليهم من أرض الحبشة وأرض مصر والنوبة‏.‏

وكانت البجة تعبد الأصنام ثم أسلموا في إمارة عبد الله بن سعد بن أبي سرح وفيهم كرم وسماحة وهم قبائل وأفخاذ لكل فخذ رئيس وهم أهل نجعة وطعامهم اللحم واللبن فقط‏.‏

ذكر مدينة أسْوَان أسوان من قولهم‏:‏ أسى الرجل يأسى أسىً‏:‏ إذا حزن ورجل أسيان وأسوان‏:‏ أي حزين وأسوان في آخر بلاد الصعيد وهي ثغر من ثغور الإقليم يفصل بين النوبة وأرض مصر وكانت كثيرة الحنطة وغيرها من الحبوب والفواكه والخضراوات والبقول وكانت كثيرة الحيوان من الإبل والبقر والغنم ولحمانها هناك غاية في الطيب والسمن وكانت أسعارها أبدًا رخيصة وبها تجارات وبضائع تحمل منها إلى بلاد النوبة ولا يتصل بأسوان من شرقها بلد إسلاميّ وفي جنوبها جبل به معدن الزمرّذ وهو في برّية منقطعة عن العمارة وعلى خمسة عشر يومًا من أسوان معدن الذهب ويتصل بأسوان من غربيها‏:‏ الواحات ويسلك من أسوان إلى عيذاب ويتوصل من عيذاب إلى الحجاز وإلى اليمن والهند‏.‏

قال المسعوديّ‏:‏ ومدينة أسوان يسكنها خلق من العرب من قحطان ونزار بن ربيعة ومضر وخلق كثير من قريش وأكثرهم من الحجاز والبلد كثير النخل خصيب كثير الخير تودع النواة في الأرض فتنبت نخلة ويؤكل من ثمرها بعد سنتين ولمن بأسوان ضياع كثيرة داخلة بأرض النوبة يؤدّون خراجها إلى ملك النوبة وابتيعت هذه الضياع من النوبة في صدر الإسلام في دولة بني وقد كان ملك النوبة استعدى المأمون حين دخل مصر على هؤلاء القوم يوفد وفدهم إلى الفسطاط ذكروا عنه أنّ أناسًا من أهل مملكته وعبيده باعوا ضياعًا من ضياعهم ممن جاورهم من أهل أسوان وأنها ضياعه والقوم عبيد لا أملاك لهم وإنما تملكهم على هذه الضياع تملك العبيد العامرين فيها فجعل المأمون أمرهم إلى الحاكم بمدينة أسوان ومن بها من أهل العلم والشيوخ وعلم من ابتاع هذه الضياع من أهل أسوان أنها ستنزع من أيديهم فاحتالوا على ملك النوبة بأن يقدّموا إلى من ابتيع منهم من النوبة أنهم إذا حضروا حضرة الحاكم أن لا يقرّوا لملكهم بالعبودية وأن يقولوا سبيلنا معاشر النوبة سبيلكم مع ملككم يجب علينا طاعته وترك مخالفته فإن كنتم أنتم عبيدًا لملككم وأموالكم له فنحن كذلك فلما جمع الحاكم بينهم وبين صاحب الملك أتوا بهذا الكلام للحاكم ونحوه مما أوقفوهم عليه من هذا المعنى فمضى البيع لعدم إقرارهم بالرق لملكهم إلى هذا الوقت‏.‏

وتوارث الناس تلك الضياع بأرض النوبة من بلاد مريس وصار النوبة أهل مملكة هذا الملك نوعين من وصفنا أحرار غير عبيد والنوع الآخر من أهل مملكته عبيد وهم من سكن النوبة في غير هذه البلاد المجاورة لأسوان وهي بلاد مريس‏.‏

قال‏:‏ وأما النوبة فافترقت فرقتين فرقة في شرق النيل وغربه فأناخت على شاطئه واتصلت ديارها بديار القبط من أرض صعيد مصر واتسعت مساكن النوبة على شاطئ النيل مصعدة ولحقوا بقريب من أعاليه وبنوا دار مملكة وهي مدينة عظيمة تدعى‏:‏ دنقلة والفرقة الأخرى من النوبة يقال لها‏:‏ علوة وبنوا مدينة عظيمة سموها‏:‏ سرقته والبلد المتصل مملكته بأرض أسوان يعرف بمريس وإليه تضاف الريح المريسية وعمل هذا الملك متصل بأعمال مصر من أرض الصعيد ومدينة أسوان‏.‏

قال‏:‏ وفي الجانب الشرقيّ من صعيد مصر جبل رخام عظيم كانت الأوائل تقطع منه العمد وغيرها‏.‏

فأما العمد والقواعد والرؤوس التي يسميها أهل مصر الأسوانية ومنها حجارة الطواحين فتلك نقرها الأوّلون قبل حدوث النصرانية بمئين من السنين ومنها العمد التي بالإسكندرية‏.‏

وفي في الحجة سنة أربع وأربعين وثلثمائة أغار ملك النوبة على أسوان وقتل جمعًا من المسلمين فخرج إليه محمد بن عبد الله الخازن على عسكر مصر من قبل أو نوجور بن الإخشيد في محرّم سنة خمس وأربعين فساروا في البرّ والبحر وبعثوا بعدّة من النوبة أسروهم فضربت أعناقهم بعدما أوقع بملك النوبة وسار الخازن حتى فتح مدينة أبريم وسبى أهلها وقدم إلى مصر في نصف جمادى الأولى سنة خمس وأربعين بمائة وخمسين أسيرًا وعدّة رؤوس‏.‏

وقال القاضي الفاضل‏:‏ إنّ متحصل ثغر أسوان في سنة خمس وثمانين وخمسمائة بلغ خمسة وعشرين ألف دينار‏.‏

وقال الكمال جعفر الأدفوي‏:‏ وكان بأسوان ثمانون رسولًا من رسل الشرع وتحصل من أسوان في سنة واحدة ثلاثون ألف أردب تمرًا وأخبرنا من وقف على مكتوب كان فيه أربعون شريفًا خاصة وأنّ مكتوبًا آخر رأى فيه ستين شريفًا دون من عداهم‏.‏

قال‏:‏ ووقفت أنا على مكتوب فيه نحو من أربعين مؤرخ بما بعد العشرين وستمائة من الهجرة‏.‏

وكان بثغر أسوان بنو الكنز من ربيعة أمراء ممدوحون مقصودون صنع لهم الفاضل الشديد أبو الحسن بن عرام سيرة ذكر فيها مناقبهم وأسماء من مدحهم ومن ورد عليهم ولما أرسل السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب جيشًا إلى كنز الدولة وأصحابه ترحلوا عن البلاد فدخلوا بيوتهم فوجدوا بها قصائد من مدحهم منها قصيدة أبي محمد الحسن بن الزبير قال فيها‏:‏ وينجده إن خانه الدهر أوسطًا أناس إذا ما أتجد الذل اتهموا أجاروا فما تحت الكواكب خائف وجادوا فما فوق البسيطة معدم وأنه أجازه عليها بألف دينار ووقف عليه ساقية تساوي ألف دينار وكان بأسوان رجال من العسكر مستعدون بالأسلحة لحفظ الثغر من هجوم النوبة والسودان عليه فلما زالت الدولة الفاطمية أهمل ذلك فسار ملك النوبة في عشرة آلاف ونزله تجاه أسوان في جزيرة وأسر من كان فيها من المسلمين ثم تلاشى بعد ذلك أمر الثغر واستولى عليه أولاد الكنز من بعد سنة تسعين وسبعمائة فأفسدوا فسادًا كبيرًا وكانت لهم مع ولاة أسوان عدّة حروب إلى أن كانت المحن منذ سنة ست وثمانمائة وخرب إقليم الصعيد فارتفعت يد السنة عن ثغر أسوان ولم يبق للسلطان في مدينة أسوان والٍ واتضع حاله عدّة سنين ثم زحفَتّ هوّارة في محرّم سنة خمس عشرة وثمانمائة إلى أسوان وحاربت أولاد الكنز وهزموهم وقتلوا كثيرًا من الناس وسبوا ما هناك من النساء والأولاد واسترقوا الجميع وهدموا سور مدينة أسوان ومضوا بالسبي وقد تركوها خرابًا يبابًا لا سكن بها فاستمرت على ذلك بعدما كانت بحيث يقول عنها عبد الله بن أحمد بن سليم الأسوانيّ في كتاب أخبار النوبة‏:‏ أن أبا عبد الرحمن عبد الله بن عبد الحميد العمري لما غلب على المعدن كتب إلى أسوان يسأل التجار الخروج إليه بالجهاز من طريق المعدن فخرج إليه رجل يعرف بعثمان بن حيخلة التميميّ في ألف راحلة فيها الجهاز والبرّ‏.‏

وذكر أنّ العمريّ لما عاد إلى بلاد البجة بعد حروبه للنوبة كثرت العمارة حتى صارت الرواحل التي تحمل الميرة إليهم من أسوان ستين ألف راحلة غير الجلاب التي تحمل من القلزم إلى عيذاب قال‏:‏ ومما شاهده جماعة من شيوخنا الثقات بأسوان بقرية تدعى أساشي هي من أسوان على مرحلتين ونصف أنهم رأوا شرقها من جانب النيل قرية بسور وخارج بابها جميزة وناس يدخلون ويخرجون فإذا عبروا إلى الموضع لم يجدوا شيئًا وهذا يكون في الشتاء دون الصيف قبل طلوع الشمس والناس مجمعون على رؤيتها وصحة هذا الخبر وكان بها أنواع من التمر وأنواع من الرطب منها نوع من الرطب أشدّ ما يكون من خضرة السلق‏.‏

وأمر هارون الرشيد أن يجمع له من ألوان تمر أسوان من كل صنف تمرة واحدة فجمع له ويبة ولا يعرف في الدنيا بسِرٌ يتتمر قبل أن يصير رطبا إلا بأسوان‏.‏